قال تعالى في سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام وهي التي تُسمى أيضا سورة القتال :
((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ .وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )) \الآيتان 1و2 وفي السورة نفسها يقول سبحانه وتعالى :
((وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ )) \ الآيتان 8و9 ، فما الفرق بين ( أضلّ) و(أحبط) ؟؟؟
ولقد كان الدافع لبحثنا هذا زعم بعض المفسرين أن هذا جاء دفعا للتكرار ، ولو كنا أمام نصٍّ أدبي من نصوص البشر لمرّرنا هذا التعليل ، ولكنا أمام نصّ إلهي مقدس لا يأتيه الباطل ولا الشك ولا الزيغ أو النقص من بين يديه ولا من خلفه !!!
قد يتبادر إلى الذهن أن ( أضلَّ) ترادف ( أحبط) وبالتالي جاء تْ الكلمتان متغايرتين لمنع التكرار . ولكنّ الصياغة القرآنية الكريمة المحكمة تأبى هذا التفسير ، وما نراه أن كل كلمة جاء ت بموضعها ، حسب نظرية الأنزيمات في اللغة العربية ، وقد أشرنا إلى هذه النظرية سابقا ، فكما أن الأنزيم يدخل في التفاعلات الكيماوية ليسرّعها أو ينشطها ، ولا يمكن لأيِّ أنزيم أن يقوم بدور غيره ، وهنا في كتاب الله تعالى لو أردنا استبدال كلمة بكلمة أخرى ( تضارعها وترادفها ظاهـريا ) فإننا نفشل فشلا ذريعا ولا يمكن لحرف أن ينوب مناب آخـر فما بالك بكلمة ؟!
(ضلَّ \ ض ل ل ) : تقول العرب ضَـلَّ ضَلاًّ، وضَلالاً، وضَلالَةً: خَفِيَ، وغابَ. ويقال: ضلَّ الشيءَ في الشيء . و ضاع . وتلفَ وهلَك . و بَطَلَ . وـ ذهَب . ويقال : ضَلَّ سعيه : عمِل عملاً لم يعُدْ عليه نفْعُهُ ، أو ذهَب هباءً . ويقال: ضَلَّ الميت في الأرض : توارى وتلاشى . وضلَّ : زلَّ عن الشيء ولم يهتد إليه . وضلَّ النَّاسي : غاب عنه حفظه. وضلَّ الشيء ، وعنه ، وفيه : نسِيَه أو أُنْسِيَه. و فقده . وضلَّ الطريق: لم يهتدِ إليه. وضلَ الشيء فلاناً : ذهب عنه فلم يقدر عليه وعجز عنه .( ضَلَّ ) ضَلَلاً، وضَلالةً : ضَلَّ يَضِلُّ .
( أَضَلَّهُ ): جعلَهُ يَضِلّ . و أخفاه. و غَيَّبَه. و دفنه. و أهلكه وضيَّعه. والشيء فلاناً : ضَلَّه . وأضلّـه وجده ورآه ضالاًّ . وأضلَّ الله أعمالهم : لم يجازهم على ما عملوا ، أي أضاعها لهم ولم ينتفعوا منها .( ضَلّلَهُ ) تَضْليلاً ، وتَضْلالاً : صيَّره ضالاًّ . وـ نسبه إلى الضلال . وأضلَّ الماء : سرَّحه بين الصخور أو الأشجار . ( تَضَالَّ ) فلان : ادَّعى الضلال ، أو تظاهر به . ( تَضَلَّلَ ) الماء من تحت الحجر : ذهب .
( اسْتُضِلَّ ) ضَلاله : طُلِب منه أن يضلّ. و (الأُضْلُولَةُ ): الضَّلال . ( ج ) أضاليل .( الضالُّ ) : كل من ينحرف عن دين الله الحنيف . ويقال : هو ضالٌّ تالٌّ ( على الإتباع ) . ( ج ) ضُلاَّل .( الضَّالَّةُ ) : كل ما ضلَّ ، أي ضاع وفُقِد من المحسوسات والمعقولات ، أو من البهائم خاصة . ويقال : ( الحكمة ضالَّة المؤمن ) ولعلَّه حديث شريف . ( ج ) ضوالّ . ( الضَّلالُ ) : الغياب . والضلال الهلاك . والباطـل والنسيان . وهو أيضـاً العدول عن الطريق المستقيم عمداً أو سهواً ، كثيراً كان هذا العدول أو قليلاً .
والحبط ( ح ب ط ) ، جاء فيها معجمياً :
الحَبَط مثل العَرَبِ من آثارِ الجُرْحِ وقد حَبِطَ حَبَطاً وأَحْبَطَه الضرْبُ ، وقال الجوهري يقال حَبِط الجرحُ حَبَطاً بالتحريك أَي عَرِب ونُكس . أما أصْـل الاشتقاق فيحدثنا عنه لسان العرب نقلاً عن الجوهري صاحب الصحاح : الحَبَطُ أَن تأْكل الماشية فتُكْثِرَ حتى تَنْتَفِخَ لذلك بطونُها ولا يخرج عنها ما فيها أي تصاب بالانتفاخ مترافقاً مع إمساك المعدة ، وحَبِطتِ الشاة بكسر الباء حَبَطاً انتفخ بطنها عن أَكل الذُّرَقِ وهو الحَنْدَقُوقُ ( قاله الأَزهري ) حَبِطَ بطنُه إِذا انتفخ يحبَطُ حَبَطاً فهو حَبِطٌ وفي الحديث وإِنَّ ممّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُما يَقْتُلُ حَبَطاً أَو يُلِمُّ وذلك الدَّاء الحُباطُ . وصار بإمكاننا المقارنة بين الجذرين ( ح ب ط ) و ( ض ل ل ) :
فالحبط عمل يُقام به ثم يفسده صاحبه بنفسه :
وحَبِطَ حبْطاً وحُبوطاً عَمِلَ عَملاً ثم أَفْسَدَه واللّه أَحْبَطه ، وفي التنزيل كما مرَّ آنفا : (( فأَحْبَطَ أَعمالَهم )) سورة محمد\9 ، الأَزهري إِذا عمل الرجل عملاً ثم أَفْسَدَه قيل حَبِطَ عَمَلُه وأَحْبَطَه صاحبُه ، وأَحْبَطَ اللّه أَعمالَ من يُشْرِكُ به ، وقال ابن السكيت : يقال حَبِطَ عملُه يَحْبَطُ حبْطاً وحُبُوطاً فهو حَبْطٌ بسكون الباء وقال الجوهري بطل ثوابه وأَحبطه اللّه ، مثلما أن الدابة تأكل أنواعا من الطعام فيستهويها الإستزادة منه فتأكل حتى تبشم وتنتفخ ( تصاب بالنفخة ) ، وبالنتيجة يحصل لها انسداد الأمعاء ، وسريان العفن إلى جهازهـا الهضمي فتموت .
أما الجذر ( ضـلَّ \ ض ل ل ) فهو يشير الى الضياع ، أن تعمل عملا ويضيع ، لا تنتفع منه شيئاً . يقولون ضـلَّ بمعنى تلفَ وهلَك و بَطَلَ و ذهَب (( وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون)) سورة السجدة \10 ، أي أنكروا البعث بحجة ضياع رفاتهم وذهابها في التربة . ويقال : ضَلَّ سعيه : عمِل عملاً لم يعُدْ عليه نفْعُهُ ، أو ذهَب هباءً . ويقال : ضَلَّ الميت في الأرض ، أي توارى وتلاشى . وضلَّ : زلَّ عن الشيء ولم يهتد إليه .
فما وجه الاستعمال القرآني لكلٍّ من الجذرين ؟
لاحظ الجذر الأول جاء بعد مقدمة وهي الكفر والصد عن سبيل الله ، فكان الجزاء فأضلَّ الله أعمالهم وتكرر هذا في مكان آخر في السياق نفسه ( الآية 8 ) : (( فتعسا لهم وأضلَّ أعمالهم )) .
أما الجذر الثاني (( أحبط أعمالهم )) فكان جزاءً لمن كره لقاء الله تعالى ((… بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط ….)) والباء في قوله تعالى ( بأنهم ) باء السببية ، أي أنَّ سبب الحبط هو كراهيتهم لمل أنزل الله تعالى . وهناك تباين بين المقدمتين فكان التباين بين الجزائين .
الكفر والصد عن سبيل الله ، وهو عكس الإيمان وإتباع منهج الله تعالى ، بمقابل كراهية ما أنزل الله تعالى
وهو عكس الحب لما أنزل الله وإتباع منهجه ، ولنلاحظ الجزاء في أربع الحالات الحاصلة لدينا :
1-من كفر وصد عن سبيل الله >>>> أضل أعمالهم .
2-الإيمان وإتباع الحق >>>>يهديهم ويصلح بالهم .
3-كراهية ما أنزل الله >>>>أحبط الله أعمالهم .
4-الرغبة بما أنزل الله وإتباع منهجه والجهاد في سبيله >>>>يصلح بالهم ولا يبطل أعمالهم .
ولنقرأْ متابعة للآيات في السورة ذاتها : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )).الآيات 32 – 34 .
إذن فالكافر أصلا لم يوفق للعمل الصالح وضيَّع الفرص المتاحة له بكفره وامتناعه عن اتباع المنهج فكان المناسب أن يضلَّ الله عمله ، أما من كره لقاء الله فكان الجزاء له الحبط ، فمثلما يحدث للبهيمة من فرط تناول الطعام والبشم والانتفاخ فالموت حدث له تمامـاً ، وإنَّ قبح الكراهية
لمنهج الله وكراهية لقائـه عزَّ وجلَّ تتناسب مع قبح الحبط وما يرافقه من معاناة ومرض قبل الموت !
dr. mohammed alhariri