دراسات و أبحات

شعر الروايس : مواقفُ مقاومةٍ ورفض…

سعيد جليل*

 

         الشعر الأمازيغي الذي تغنّى به الروايس، أو صنف القصيدة سجل حافل بالمعطيات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وخطاب يوثق لمواقف نفسية وجدانية، وسياسية نقدية، لذا فهو ليس فولكلورا يُحنَّطُ ويُستمتع بشكله وألوانه فقط، كما يُتصور أنه كانَ ساكنًا لا روح فيه ولا حياة . وليس فن الروايس مُنتجًا سوقيا غرضه الربح والمردود المادي الآني تجري به رياح أرباب الشركات من المُنتجين حيث تشاء، وهو ما يُريده البعض اليوم منه قسراً. وليس فنّ الروايس أخيرا فنا مُحمّلا بما لا طاقة له به؛ يَنطق بإيديولوجيا مُعينة نشأت بعده بكثير، وهو ما يريده البعض منه أن يتحملهُ اليوم رغما عنه. إن شعر الروايس وأغنية “تارَّايْسْتْ” لن تكون إلا ما تُريد من نفسها، وستحيى وتتطور وفق منطقها الخاص وفي علاقتها بالأنماط الغنائية الأخرى(المجموعات، كَناوة، أحواش…)، ولن تَنطق إلا بما تُتيحه لها ممارستها من جهة القول والموضوع، ومن جهة اللحن والأداء تعيش تطورها الداخلي بشكل طبيعي لا قسر فيه.

  وكثير هم الشعراء – الروايس – الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في حياتهم بفضل ما أوتوا من الموهبة الشعرية الفائقة ، لكن بمجرد أن تخطفهم الموت أصبحوا نسيا منسيا، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن ذاكرتنا الثقافية والفنية تعاني معضلة الموت المزدوج؛ موتٌ مادي يؤدي إلى توقف العطاء الفني، وموت معنوي يتمظهر في الإهمال والتناسي الذي يطال المبدعين الذين توقفوا عن العطاء بسبب العجز أو المرض أو الاعتزال لسبب معين (تيحيحيت مقورن، المهدي بن مبارك، محمد أبوزيا، عبد الله بوودادن، العربي بهنّي…)،أو الذين رحلوا عن دنيانا، ومن ثمة طال ذلك الموت الرمزي إبداعهم بحيث أضحى عرضة للإهمال والتشتت والقرصنة والتشويه… ولم تُبذل أية جهود لجمعه وتدوينه ونشره.

        وإذا كان الموت الأول طبيعيا حتميا لا دخل للإنسان فيه، ومن ثمة مقبولا بالقوة، فإن الثاني أكثر إيلاما ووطأة على الذاكرة الثقافية لأن للإنسان كامل المسؤولية فيه، وبالإمكان دفعه بما تدفعه به الأمم والشعوب المتقدمة من أصناف الاعتراف والتكريم والتوثيق. وقد كان عمر واهروش من بين المتنبئين بحدسه القوي بهذه الوضعية حيث قال:

 

                                           كولما يلولن راداخ ئمت

 

                                           أس نا يتما لاجال نــــــس

 

                                           ؤر ئلا بلا أيكَيز ئكالــــن

 

                                           ألاح لخبارنس مدن تونت1

        

           فكيف نحتفي اليوم بذكرى الراحلين من أعلام الروايس مثل: الحاج بلعيد ,وأنشاد, وبودراع, وأزعري, والدمسيري ,وأهروش, وبونصير, وأكَلاوو,وأمسكين, والحامدي وأيسار …..؟ وكيف نكرم الأحياء ونحتفي بهم مثل: أمنتاكَ وأجوجكَل,وبشعراء كأحمد الريح وإبراهيم بيهتي ومحمد بيسموموين والحسن بوميا وعمر برغوث…وغيرهم؟ وكم من الأزقة والشوارع والساحات تحمل أسماءهم ؟ وكم من الأعمال النقدية والمجاميع الشعرية انكبت على أعمالهم جمعا ودراسة وتحليلا ؟ وهم الذين حفظوا لغة الشعب في قصائدهم ، وتناولوا همومه في إنتاجهم , وناضلوا من أجل حريته ورفاهيته , وانتقدوا الانحراف الاجتماعي ومظاهره والظلم والقهر أملا في الإصلاح , ومنهم من عانى السجن في زمن الاحتلال الفرنسي , والاعتقال في سنوات الجمر والرصاص , وكان سلاحُهم الشعر , وزادُهم الإيمان بعدالة قضايا الشعب.

 

         ومن الأمثلة الكثيرة في شعرنا الأمازيغي على مواجهة الاستعمار بالكلمة الشعرية المؤثرة,قصيدة عمر واهروش التي ألقاها سنة  1952 أمام قائد  وأذناب الاستعمار في “مزوضة” بحوز مراكش,والمعروفة بقصيدة “الضَّابيطْ”2,ويقول فيها:


نضالب ئربّي سّوطرا أور ييكَوت لعيبْ

   يات نسّنتّ  ضّابيط   ؤر تفيل أقاريضْ

ئكَّيزد لموراقيب   يان  صباح ئبكّردْ

لباضل ئسّوكيد ألّن أخوتي دار اللّوزْ

ئصرّف  ئغيردم لاحكامنس ئكَ أكَلّيد ْ

     أكولّ ماخ ئبّي فيسّن ئحرماس أتّ ئكمزْ

        ئخ أمر ئنّا عاكْ ئفتوس “لبيرو”3 يكّ تيدْ.

 

        هذه القصيدة التي يمكن اعتبارها – إلى جانب قيمتها الأدبية- وثيقة تاريخية واجتماعية تؤرخ لفترة من تاريخ المغرب من خلال ما مارسه الاستعمار الفرنسي من استغلال اقتصادي و اجتماعي للبوادي المغربية وسكانها وخيراتها,هذا الاستغلال الذي ساعدت عليه استعانة الاحتلال ببعض أبناء المناطق المستغَلَّة ممن كانت لهم قابلية الانسياق والتبعية , سعيا وراء مآرب شخصية أو رغبة في الاستقواء بالأجنبي على العدو، سواء تعلق الأمر بقبيلة معادية أو بالمخزن المركزي ذاته.

       وهذه القصيدة التي اقتطفنا منها ما سبق أُلقاها الرايس عمر واهروش الشاب أمام القائد محمد المزوضي الذي أمر باعتقال الشاعر فورا،إذ القائد من أبناء المنطقة الذين يتذوقون الشعر الأمازيغي ويدركون معانيه جيدا،بل ويعرفون جيدا قوة الكلمة الشعرية وثأثيرها في بيئةounzoudt,التي تنبت الشعراء كما تنبت الأرض العُشب4،وقد فهم القائد أنها إدانة وإهانة علانية له وللجهاز الذي ينتمي إليه،فقرر أن يكون اعتقال الشاعر علانيا أمام الملأ ويُقتاد بعدها سيرا على الأقدام من مزوضة إلى إمي نتانوت.

    وإن ممارسات الاستعمار هذه بحوز مراكش التي ندُد بها واهروش ليست إلا نموذجا لما عانته البلاد بشكل عام من ويلات الاحتلال,وما القصيدة كذلك إلا مثال لما كان يتغنى به الروايس و”إماريرن”من شعر يدخل في إطار المقاومة الثقافية والأدبية,سواء في القرى أو المدن,في الأسواق والحفلات و”الحلقات” التي تعرفها عدة مدن(مراكش,أكادير,تيزنيت،إنزكَان ،أيت باها…..).

    وقد كان للشاعر الكبير الحسين جانطي الصيت الذائع في شعرالمقاومة والنقد الاجتماعي,وتجمع الروايات الشفوية لمجاييليه على أن حلقته كانت تمتلئ عن آخرها بعشاق أشعاره,وهواة تفكيك رموز الصورة الشعرية المعقدة التي كان يتقن بناءها ليخفي بواسطتها ما يريد أن يوصله من المعاني المحظورة آنذاك.

 

     كما تؤكد مختلف الشهادات إزعاجه للسلطات الاستعمارية في كل الأماكن التي يلقي فيها أشعاره ,لذلك تلجأ إلى اعتقاله تارة,وإلى تهديده تارة أخرى.ومما يذكر هنا أنه تم اعتقاله بأكَادير سنة 1953، ودامت مدة سجنه ستة أشهر,ليحكم عليه فيما بعد بالإقامة الجبرية في قريته ب “أشتوكــن” إلى غاية حصول البلاد على الاستقلال، ومما يُنقل من شعره في هذا المقام قوله:

 

                                           ييوي ورومي د شيطان لماغريب ئزوُوراسْ

                                           أراسن ئمال ئقاريضن دلكساوي عدلـــــــنينْ             

                                           هان ئصحا ئس كُولو لوحن ميدن تيسغارينْ

                                           تاويد كَيسن ويلاك ؤر ئلازم نت أد ساولـــنْ

                                           ماسا يميل أدرن مدن يان ئبلا لافعالــــــنسْ

 

        وقد وصف جانطي التعاون بين المحتل والشيطان بأنه يهدف إلى الاستغلال بكل أشكاله عن طريق الإغراء المادي وغيره من وسائل الاحتيال,ولا يتوقف الأمر عند هذا الوضع بل يتجاوزه إلى المساس بالهوية والذات والثقافة من خلال دعوى “التحديث”و”التحضر”CIVILISATION  التي توكلها السوسيولوجيا الكولونيالية لإدارة وسلطة الحماية باعتبارها مهمة “نبيـــلة” وهي لا تعدو أن تكون قناعا إيديولوجيا يخفي التبعية والاستغلال.

      ومن شعر جانطي ما أصبح بمنزلة المثل والقول السائر(أوالْ إدرْنْ ) بين الناس إلى اليوم,كقوله في وصف الاضطرابات السياسية التي عرفها المغرب قبيل الاستقلال في إيجاز بليغ:

 

                                    ئخوض ؤمدا ؤر ياد ئسفاو ؤسلم أمان

 

   وقوله في استغلال سوس وهدم تقاليده وعاداته وثقافته :

 

                                    ئويناخ سرك ئغرداين أسوس لعافيت

 

وفي وصفه الذين يجرون وراء المُتع واللذات وينسون واجبهم الوطني:

 

                                   وانّا يْغــــين أقّْرعييْ إكّساس إخف

 

        هذا الشاعر المقاوم الذي عاش مناضلا قنوعا أبيّ النفس,قد اندثر أكثر إنتاجه بعد رحيله,وانقراض حفظة شعره5,لأنه –للأسف الشديد- امتنع في حياته عن تسجيل قصائده في أسطوانات, رغم كل العروض المغرية التي قدمتها له شركات التسجيل.ووصفه الأستاذ عمر أمارير حينما قام بزيارته في يناير 1973 ببيوكَرى,بأنه يوجد”في قريته التي يعيش فيها منسيا مغمورا”6,وهو الوضع الذي عانى منه دون أي أدنى تقدير لنضاله الوطني إلى غاية شتنبر 1975 حيث وافته المنية بمدينة أكادير.

وبحصول المغرب على الاستقلال انتقلت وظيفة الشعر إلى مساءلة أوضاع المواطن والمجتمع,وكان لزاما على الشاعر أن يتخذ موقفا من السياسة والدولة والمجتمع,فاختار أن يتحدث بلسان الطبقات المقهورة,في المدن والقرى,في السهل والجبل,إنها الطبقات التي عانت مرارة ظلم الاستعمار والاستغلال,وهللت لبزوغ شمس الحرية,لكنها أصيبت بالخيبة وهي تكتشف أن غنائم الاستقلال كانت من نصيب جهات وفئات دون عامة الشعب,فتحولت ممارسة القهر من يد المحتل إلى أياد كان يفترض فيها الإخلاص للوطن والتفاني في خدمة المواطنين والرأفة بهم. 

          من هذا المنطلق نشأ الشعر النضالي الملتزم بهموم المواطن المسحوق,والمدافع عن هويته وثقافته المهمشة سياسيا,تعليميا وإعلاميا,ولا نجد في هذا الميدان منازعا للرايس محمد الدمسيري (ألبنسير) ,ولا متطاولا على سبقه وجُرأته و تفرده,لقد كان غزير الإنتاج في هذا المجال,وكان جمهوره ينتظر جديده الشعري بلهف,وينتظر بالضبط الموضوع الذي سيطرقه,وكأنه من كبريات الصحف والمنابر الإعلامية الناقدة,لذلك عانى الدمسيري من الاعتقال والمضايقات بسبب شعره الذي كرسه للتنديد بالرشوة والمحسوبية, وغلاء المعيشة والاحتكار والمضاربات,واستنكر الظلم  والاعتقال السياسي والشطط في استعمال السلطة,كما انتقد ابتزاز المواطن البسيط , وثار على إقصاء الثقافة واللغة والفن الأمازيغي من الحق في الإعلام العمومي,منددا في المحافل والأفراح والمناسبات بسيادة ثقافة وفن ولغة واحدة,لا ينازعها في الحظوة غيرُها7,متخذا الكلمة وسيلته ,وقول الحق شعاره, مهما كان الثمن في وقت كان الناس يخشون أن يُساءلوا عن أحلامهم,يقول:

 

                                       ِأيلي ئكَا ربي د لحاق أسا  تينيخْ

 

        وتتعاظم الرسالة,وتكبر المخاطر,في زمن تكالب فيه المتنفّذُون من منعدمي الضمائر والمتعودين على السلب والنهب دون رقابة أو حساب,هؤلاء يستغلون كل أزمة تمر بها البلاد لابتزاز المواطنين وظلمهم,يقول:

 

                                      ؤفان ئدواش أزمز أشكُو لاح أكورايْ

                                      أيان ئميارن جّيب ئصحان أتّن تّاكرنْ

                                      أدوكان ياف أزمز لكسُوت أراك ئكّيسْ

 

     ولا يخفى أن الأزمات السياسية والاجتماعية التي عرفها المغرب في السبعينيات والثمانينيات أدت إلى استياء شعبي عام من السياسات المتبعة و اضطرابات اجتماعية واجهتها الدولة بالعنف,ولم تسلم من تأثيرها أية جهة أو فئة من جهات البلاد وشرائحها وطبقاتها,ويبقى المواطن قاربا شاردا تجرفه السيول حيثما سارت وتتلاعب به الأمواج العاتية التي يتحكم في مدّها وجزرها المخزن ونخبته السياسية المُطيعة آنذاك,فلا تزيد معانات الشعب إلا تفاقما وتأزُّما,يقول:

                                    ئكّاد لحزن تامازيرت ئكّا كُولّو سوسْ

                                    أسيف ئنكَي ضّوراد ئسمُوناكّ لغلاتْ

                                    أكُولّو كرادّ  مّاكَّارن ئلّا خ  لخاطــــــارْ

 

        وكثيرا ما تحدث الدمسيري بضمير المتكلم (نحن=نْكّني) وبصيغة الجمع عن المواطن/الشعب,في إشارة إلى الذات الجماعية التي تصارع من أجل الحرية ولقمة العيش الكريمة.إن المواطن العادي غالبا ما كان ضحية سذاجته وأُميته ,لذلك تعوزُه الوسائل والوعي الممنهج لمواجهة قوى القهر,والشاعر هو الذي امتلك أهم الوسائل,وهي “سلطة القول” التي بإمكانها الحديث بلسان الجماعة والبوح بآلامها وآمالها,بحاجياتها ومطالبها,دون تمييز يخص لسانها أو لونها أو منطقة تواجدها فالضمير جماعي والشعور مشترك والإنسان مطلق يجب الدفاع عنه وعن إنسانيته,يقول:

 

نكَا تيهراي مدن كَان فلا تنـــخ أفوسْ

أتــان ئصحان زّنزنت لاسن تاضوتنسْ

أتــــان ئضعافن تاكَانت أخاسن غيرنتْ

 

وهنا نرى أن الدمسيري لا يحط من قيمة الذات الجماعية حينما يصفها بالسذاجة (أحينو نكَا شكَنا دا تغالاخ ئس نحرش),وبسهولة الانقياد (نكَا تيهراي….),وسهولة الاستغلال(نكَا زوند لفانيد…نكَا زوند أدوكو….أحينو نكَا تاموديت…)…وغيرها من الأوصاف,ولكنه إنما يريد أن ينتقد رؤية المتنفذين والمستغلين والجلادين عن طريق بسطها وتشريحها,والواضح كذلك أن ما في هذا النوع من الشعر من التوعية والإيقاظ أهم وأقوى مما فيه من جلد الذات وتأنيبها.إن في وصف الذات بالصمت والسبات وسهولة الانقياد هو في الواقع دعوة إلى النقيض من أجل التغيير،دعوة إلى التفكير والوعي واليقظة والتمرد ,وعدم الانسياق وراء الخطاب السائد,يقول:

 

                                            نكَا راديو ماش رزانتاك تسورا ناخْ

                                           أواخا وكَان تخرباقخ ؤرنسيحل يانْ

 

    فإذا تساوى صوت المواطن وصَمته,وكان حضوره كغيابه,تأكد تهميش المسؤولين له وإهمالهم لما أنيط بهم من رعاية مصالحه,في مقابل انهماكهم في مصالحهم الذاتية,وهذه دعوة إلى إذكاء الوعي السياسي والاجتماعي,وإلى الكلام والنضال ومواجهة الاستغلال والتهميش والإقصاء,أي مواجهة ما يُراد له أن يكون مصيرا اجتماعيا حتميا للطبقات المقهورة.

وتعد قصيدة الدقيق (أكَرن) التي تتجاوز أبياتها المائتين, مثالا في شعر الشجب والاستنكار لوضع اجتماعي صعب,تسمُه الفوارق والغلاء والفقر وعلاقات الاستغلال,وهي القصيدة التي مورس التضييق بسببها على الدمسيري وكانت متداولة بشكل سري,لأن المنتج مُنع من توزيعها,يقول فيها:

ئكَا غاد ماخ ئتوهام يان نــخ اك ألانْ                                                                                                                ؤرجو نعاقل سربيس أييلي ف ؤكَرنْ                                                                                                                         ؤلا طومزين أد ئكَان خمسميات ريالْ                                                                                                                          ؤلا جود ماطيشا أد نسغا ستين ريالْ                                                                                                                                                         أخيزو دباطاطا دؤخساي ؤفن تامنتْ                                                                                                                                                                        ئكَا لمسكين خ طوزومت ن سوق ليتيمْ                                                                                                                                                                                أتاناس هلي ن ئكَا يفاســـــن لاحاسنتْ                                                                                                                                                      تحرا لخنشت ن ؤكَرن توتي تامان نسْ    

                                                                                                                                                      كما تعتبر قصيدة المسجد (تيمزْكَيدا) أهم ما أنتجه الدمسيري في نقد الابتزاز الذي يمارس على المواطن البسيط من طرف السلطة وأعوانها في القرى والبوادي التي تعاني أصلا من الفقر والتهميش والتأخر في البنيات الأساسية ,ناهيك عما تعانيه بين الفينة والأخرى من الآثار القاسية للجفاف,والقصيدة ألقيت أول مرة في إحدى السهرات ولم تعرف طريقها إلى التسجيل,وقد استُنطق بسببها الدمسيري ولا زالت متداولة بين الناس إلى اليوم,بل إن من عشاق الشاعر من يحفظها مثل غيرها من روائعه الكثيرة, يقول في جزء منها:

                                                                                                                                                                        أح أضربت ن ضوراد أصغار أن أك ؤتنتْ                                                                                                             مـــــــــدن حاسبن تالوزين تلتالاف  ئياتْ                                                                                                                                   ئما تـــــــــاروا وانادار سموس ئشا ماسْ                                                                                                                                                           ؤر ئفـــــرح يان ئزنزان واخا نيت ئسوقْ                                                                                                                                                      ؤر ئــــــــــــفرح ؤسباب ؤر ئفرح ؤفلاحْ                                                                                                                                                        ئكَا سوق زود روضـــــا ورات ئتيري يانْ                                                                                                                          أوانا تخاصا لمضــــــارت ئخيصيت ؤكَرنْ                                                                                                                   أر ئتيكسوض ئخد ؤكـــــــَان أد فكين ئميكْ                                                                                                                                      ؤر ئفولكي غيكاد ؤرتــــــــــاك ئني ليمامْ

 

    ومن الشعراء الروايس الذين تناولوا المسألة الاجتماعية في شعرهم نجد الشاعر إبراهيم بيهتي الذي تناول اكتتاب 1996 المعروف بتبرع(111) حيث قال في قصيدة مطولة :

 

أهــــان أيت الخاريج مناص أنّْ إقامان

 أنــاناسن خ تمازيرت ؤرلي وامـــــــان

 إكُّورود يان كرد نّمـــاري حــرّانيــــــن

  أطوزّومـــت ن تّيليفيزيــــون أخا تيلين

  أواناتن ؤكـــان إضوفن ئنــــّا ماني ريخ

    أر ئتيكسوض أغيد إتّمنسـا س ؤكوراي8

 

    وقد أوضح فيها أن غالبية الجالية المغربية المهاجرةـ والتي ينتمي إليهاـ اختارت البقاء في الخارج وقضاء العطلة الصيفية هناك بسبب الجفاف الذي يعرفه المغرب، وندرة المياه ببوادي سوس(tamazirt) خصوصا،التي يقصدها المهاجرون رفقة أسرهم كل صيف، ثم إن ما زاد من تخوفات الجالية هو الحديث عن جمع تبرعات(111) ،وهي التي ارتبطت في الذاكرة الجماعية بالإجبار و التعسف الذي مارسه المخزن عبر التاريخ ثم سلكته سلطات الحماية، ولم تقطع معه دولة “الاستقلال”،وهو التعسف والشطط الذي لا يراعي ظروف الناس ولا قدراتهم، ولا قساوة الطبيعة وشح التساقطات، حيث كانت الحفلات الرسمية والاكتتابات نوعا من الابتزاز البعيد عن كل وطنية ولا حتى إنسانية لدرجة أن القروي البسيط يجوّعُ نفسه وعياله من أجل أداء “الواجب” tamrwast خوفا من عقاب المخزن الذي بث عيونه في كل مكان لترصد “العُصاة”.

 

 

    هذه إذن بعض النماذج المعروفة، والإشارات السريعة إلى شعر المقاومة عند عمر واهروش والحسين جانطي، وشعر النضال الاجتماعي والسياسي  والهوياتي عند محمد الدمسيري، وكذا بعض النقد للممارسات السلطوية عند ابراهيم بيهتّي، وكلها تثبت الارتباط الوثيق للرايس /الشاعر الأمازيغي بالأرض والهوية وقضايا الإنسان،إذ يُعد لسان الجماعة وضميرها اليقظ، ويبقى الموضوع مفتوحا مادامت عملية جمع النصوص وتدوينها ماتزال في بداياتها الأولى، والمأمول أن تتوفر في المستقبل القريب المادة اللازمة من مجاميع ودواوين شعرية قصد القيام بأعمال أكثر شمولا وتكاملا من حيث العناصر والنتائج9.

 

*الهوامـــــــــش:

1ـ عمر واهروش .قصيدة “الله ألموت”.

2ـ”ضابيط”:ضريبة فرضها الاستعمار الفرنسي على الأهالي اعتمادا على حجم الممتلكات من أراض فلاحية ورؤوس الماشية والمنتوجات الزراعية والأغراس .                                                                                                                                                              3  ـ المكتب : bureauأي مركز سلطات الاحتلال الذي يرأسه غالبا ضابط/ قبطان  capitaine  ويرمز دائما إلى التسلط والعقاب والتوبيخ في المخيال الجماعي الشعبي إلى اليوم.

4 ـ من شعراء مزوضة الكبار: عمر إجيوي،عمر واهروش،عمر برغوت،عمر عجاج،الحسين أوييدار،الحسن أولحاج،أسرة ابن ادريس،محمد بيسموموين،الحسن بوميا،…..وآخرون ممن لا نعرف أو لانستحضر أسماءهم الآن.                                                                                                                       5ـ نقول هذا ونحن ننتظر صدور ديوان الحسين جانطي الذي قام بجمعه الأستاذان: محمد مستاوي وأحمد عصيد.

 6ـ  عمر أمارير.الشعر المغربي الأمازيغي.ص:115.

 7 ـ كان الدمسيري يُشبّهُ نصيب الأمازيغية في الإعلام العمومي بنصيب الدراجة الهوائية من الطرق العمومية,كناية عن التهميش والإقصاء والتقزيمtahggarte.

8 ـ قصيدة أُلقيت صيف 1996  في حفل بمنطقة رسموكة،عمالة تيزنيت.

9ـ مع الإشادة بما تم إنجازه ونشره في هذا المجال من طرف محمد مستاوي وأحمد عصيد من شعر الدمسيري والحاج بلعيد وسعيد أشتوك,وكذا الحسين واعزي في دراسته عن “نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية بالمغرب” فيما يخص الوعي بالهوية عند الدمسيري.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى