محمد العمراني
إننا أصبحنا، في الوقت الراهن، نعيش في المجتمع المغربي نوعا من الوعي الشقي، حيث نلاحظ في عدة مناحي ومجالات من الحياة اليومية تفشيا لوعي مرضي نما كالفطر، ولم يعد يشكل الاستثناء، وإنما أصبح، في كثير من الحالات، هو القاعدة.
إن هذا الوعي، الذي نظر إليه الفيلسوف الألماني فردريك هيجل في كتابه “فينمولوجيا الروح”، الصادر سنة 1807، والذي يعتبر من الأعمال الفلسفية المؤثرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، هو وعي يشعر بالإحباط والعجز عندما لا يتم الاعتراف به كما هو. وعي يعاني من عدم التأقلم والاندماج، ويؤمن بالتناقض وبالشيء وضده، لكن هذا الوعي قد أخذ، داخل المجتمع المغربي الحديث، تمظهرات وتجليات أخرى، فهو وعي مركب وهجين، إذا بدت له المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية، لا تهمه حقوق الآخر، فهو يؤمن بالانتهازية والوصولية.
فسلم القيم لدى الشخص الذي يحمل هذا الوعي هو سلم بالمقلوب، لا تهمه الأخلاق، ولا يكترث للمواضعات الاجتماعية، فمنه من يمشي على بطنه، ومنه من يمشي على أربع، ويتسلق ويتحذلق في القول، ويتلون كالحرباء، ويغير معطفه بين ليلة وضحاها، ديدنه في الحياة البراغماتية : ليس هناك أعداء دائمين، وليس هناك أصدقاء دائمين، وإنما هناك مصلحة دائمة. فأينما وجدت المصلحة الشخصية، فتم الحق والشرعية، وهناك جميع المسوغات المقبولة وغير المقبولة لتبرير ذلك.
هذا النوع من الوعي هو وعي مصاب بالفصام، وبالازدواجية في تمثل الأشياء، والخبط العشواء في الوصول إلى الهدف، يشبه، إلى حد ما، المنايا، في وصف الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، من تصب تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم، ويشبه، أيضا، حصان زميله الشاعر امرئ القيس في تذبذبه وعدم تباثه على حال، فتارة يكر ويفر، وتارة أخرى يقبل ويدبر في ذات الوقت، مثل جلمود صخر حطه السيل من عل، ويشبه، في الأخير، قصة الغراب الذي أراد، ذات يوم، تقليد مشية الحمام، فنسي مشيته، ولم يعد إلى حاله الأصلي، ولم يتمكن من لوج فصيلة الحمام !؟
فكم من كهربائي يصبح رصاصا، وكم من دباغ يصبح صباغا، وكم من لا شيء يصبح شيئا ذا همة وشأن، لأنه يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف تورد الإبل. وكم من موظف يهجر مهنته التي تلقى فيها تكوينا أساسيا، ليزج بنفسه، بقدرة قادر، في متاهات مهمة ليس بينه وبينها إلا الإحسان، ولا يعرف فيها ما يقدم ولا ما يؤخر. وكم من مهنة أصبحت مهنة من لا مهنة له، رغم كونها تعتبر من أنبل المهن، وتتوفر على أنظمة أساسية وأخلاقيات ومواثيق شرف…
إنه زمن التيه والعبث، زمن الفوضى على صعيد الوعي، واضمحلال وتلاشي العقل الذي يعقل تصرفات المرء، هذه البوصلة التي توجه الإنسان الوجهة الصحيحة، وتجعله يقدر الأشياء حق قدرها، ولا يغمط الناس حقوقهم، قيد أنملة.
أمام هذه الأزمة التي نعيشها على مستوى الوعي، ما أحوجنا إلى تشكل وهيمنة وعي آخر، وعي أصيل وأصلي، يعود بنا إلى ذواتنا وأعماقنا الطيبة والخيرة، وعي سعيد، ليس بالمعنى الذي قصده عالم الاجتماع الألماني الأمريكي هربرت ماركوز، في كتابه الشهير”الإنسان ذو البعد الواحد”، الصادر سنة 1964، والذي يعني السعادة التي يوهم المجتمع الاستهلاكي بتحقيقها للفرد، من خلال تلبية جميع رغباته ومتطلباته المادية، وإنما إلى وعي يؤمن بالشئ ومرادفه ومماثله، وعي يعيش في تناغم وانسجام مع ذاته والآخرين، وعي يعرف ما له وما عليه، يعرف حدوده ولا يتقمص الأدوار من أجل مصلحة شخصية عابرة، وبهدف تحقيق موطأ قدم على حساب الغير.
وما أحوجنا، في الأخير، إلى وعي تنويري، يتميز ببعد النظر، وليس لوعي مصاب بعمى الألوان، لا يتمثل العالم إلا من خلال منظار يحرف الأشياء، ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، وعي يسمي الأشياء بمسمياتها، ويسمو على المصالح الضيقة، ويبتعد عن الأنانية والنرجسية، وعي يعمل، بشكل يومي، على الإيثار وحب وإسعاد الآخر، وتحقيق المصالح العليا للوطن، وإن اقتضى الأمر التضحية بالنفس والنفيس في سبيل ذلك.