أسمع بعضكم يتساءل إن كنت حقا سأتحدث عن الثورة؟ نعم، لكون هذا الخيار موجود في كل مكان وزمان… والكثيرون يشتغلون ليل نهار لتفادي وقوعها فيما آخرون يحلمون بقدومها… ولا أحد يستطيع التنبؤ بوقت حدوثها كالزلزال… هكذا، لم يتوقع أحدٌ ثورة الياسمين بتونس، ولا ثورة الشباب في مصر، ولا رحيل رؤساء…
في المغرب، حيث كانت الأمور “عادية” سنة 2010، إذ بآلاف الشباب يتظاهرون فجأة يوم 20 فبراير 2011 بكل المدن للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة… الربيع العربي، بدأ بتونس وانتشر كالنار في الهشيم في باقي دول المنطقة. كان مفاجئا لأمريكا وأوروبا وقادة الدول المعنية… ولم أسمع عن تقرير مخابراتي أو أكاديمي تنبأ بما وقع… هذا هو التاريخ وتلك حركة المجتمع… أتحدث عن أحداث وقعت، وليس عن مسبباتها ولا عن نتائجها، حيث تحول هذا الربيع لدى البعض خريفا، وبالنسبة للبعض الآخر كان الحدث فرصة سانحة للتيار الإسلامي المنظم للوصول إلى السلطة، وما زال الكثيرون يحلمون بموجات جديدة من ثورات الشعوب… والبعض الآخر يمني النفس أن يكون قد رحل إلى الأبد…
ننسى في المغرب أن الثورة لها جذور في التاريخ… لنأخذ على سبيل المثال، القرن العشرين، الذي بدأ سنة 1921 بثورة الريف، بزعامة محمد بن عبدالكريم الخطابي، ضد المستعمر الإسباني؛ وشَهِدَ سنة 1953، ثورة الملك والشعب، تلك الانتفاضة الشعبية، للقوى الحية للشعب المغربي بتلاحم مع الملك الراحل محمد الخامس، للمطالبة بالحرية والاستقلال…
والأكيد أن الثورة حين تقع لا يعرف أحدٌ بدايتها ولا نهايتها، أما تكلفتها البشرية والمادية فغالبا ما تكون مرتفعة للمجتمع والدولة… ولتفادي العنف المصاحب للثورات اهتدت مجتمعات وأحزاب عديدة لضرورة إيلاء أهمية قصوى للديمقراطية التمثيلية كمنظومة سياسية تمكن كل الفئات الاجتماعية والفرقاء السياسيين من خوض معارك انتخابية عوض حروب مسلحة، ومنح قيمة عالية لورقة الانتخاب عوض الحجارة والمتراس والسلاح الناري… وتمكين الفائزين من تطبيق برامج إصلاحية لفائدة الوطن والمواطنين…
نعرف أن هناك العديد من التعريفات لكل من الإصلاح والثورة… لنأخذ أحدها من القاموس الأمريكي، “وبستر”، حيث يُعَّرف “الإصلاح” كمصطلح سياسي بكونه “تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد”، على خلاف الثورة التي عَرَّفها بكونها “تغيير جذري وواسع في الأحوال والمنهج والمواقف”… أما أهم الثورات فيذكر التاريخ الثورة الفرنسية التي دامت عشر سنوات (1789-1799)؛ والثورة الكوبية (1959)؛ والثورة الإيرانية (1979)؛ وقريبا منا الثورة التونسية (2011)…
أما الثورة التي تركت آثارا كبرى في العالم فهي الثورة البلشفية بقيادة “لينين” في روسيا، أكتوبر 1917… منذ ذلك الحين تبنت الولايات المتحدة الأمريكية سياسات ترمي إلى الحد من ثورات الشعوب وتغليب الديمقراطية والإصلاح على الثورة… وخير مثال لهذا المنحى هو “روبيرت ماكنمارا” الذي كرس حياته لمواجهة الثورة وأسبابها حين تولى مسؤولية وزارة الدفاع الأمريكية (1961-1968) وهندس للحرب على الثوار في فيتنام، كما ترأس مؤسسة البنك الدولي لثلاثة عشر سنة (1968-1981) حيث عمل على وضع خطط تنموية والرفع من الإعانات والمساعدات لدول العالم الثالث لمواجهة الانفجار الديمغرافي وتحسين ظروف العيش… ومن ثم تفادي الثورة وتحالف الشعوب مع المعسكر الشرقي….
الإصلاح يوجد اليوم في مأزق مع توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وفساد السياسيين واستبداد بعضهم وابتعادهم عن المواطنين… أحسن مثال على ذلك هو ما تعيشه اليوم، الجارة الشمالية إسبانيا، من أزمة ثقة بين السياسيين والمواطنين، وفساد استشرى في معظم الأحزاب بما فيها الحزبين التاريخيين، الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني والحزب الشعبي اليميني… هذا الوضع كان من نتائجه احتجاجات عارمة للشباب الإسباني تكللت بظهور حركة 15 مايو 2011، التي انبثق عنها حزب راديكالي هو “بوديموس” الذي قرر بعد نقاش واسع العمل من داخل المؤسسات لتغيير وإصلاح ما يمكن إصلاحه عوض الدعوة للثورة…
المثال الإسباني يؤكد وجود مساحات شاسعة للعمل من داخل المؤسسات المنتخبة (من بلديات، جهات وبرلمان مركزي) لإصلاح أوضاع الإسبان والتجاوب مع مطالبهم وطموحاتهم… الثورة ليست في جدول أعمال المجتمع الإسباني… الإصلاح أولا وأخيرا شعار يرفعه الجميع ويؤكد عليه “فيليبي كونزاليس”، رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق والقائد الاشتراكي التاريخي، في حواراته مطالبا بفتح المجال للتشكيلات السياسية الجديدة للتدبير الحكومي وتطبيق بعض من برامجها الإصلاحية…
لنعد لبلد المغرب، ثورة الشباب خفت لهيبها مع خطاب الملك محمد السادس يوم تاسع فبراير 2011 حول تعديل الدستور وإصلاحات سياسية واعدة… هذا الخطاب الذي صنفه قائد سياسي في حينه أنه يشكل “ثورة هادئة” في سماء المغرب… منذ ذلك الحين، والمجتمع المغربي يبتعد عن الحراك الاجتماعي ويقرر مواصلة منح الفرصة لـ”الإصلاح” مما أدى إلى التداول الشعبي لمصطلحات عديدة حول الموضوع، من ضمنها والأكثر شهرة: “الإصلاح في ظل الاستقرار”… بالمقابل نجد فراغا في صف المعارضة حيث مصطلح “الإصلاح” شبه غائب لكون المتداول هو “محاربة الإسلاميين” والتصدي لمحاولات “أسلمة الدولة والمجتمع” وفي بعض الأحيان يتم التركيز على “غياب الحوار والتشاور”… لكن، لا وجود لبرنامج إصلاحٍ بديل، واضح، ومرقم ومزمن…
والسؤال الذي يفرض نفسه في مغرب 2016… هل “الإصلاح” قائم وظاهر للعيان ويفي بوعده أم تبخر وتأخر إلى آجل غير مسمى؟… هناك من يعتبر الحكومة الحالية مشروع إصلاح سياسي ومجتمعي، كما يتحدث البعض الآخر عن شجاعة الحكومة في إقدامها على إصلاح صندوق المقاصة وإصلاح أنظمة التقاعد كضرورة لتحسين موازنة الدولة وتمكينها من المداخيل المالية الكفيلة بالنهوض بالاقتصاد وتلبية الحاجيات الاجتماعية للساكنة… هناك رأي آخر، ينكر على هذه الحكومة أي توجه إصلاحي بل يعتبر ما تقوم به هو توجه ليبرالي محض عنوانه البارز: تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء….
المهم أن هناك إجماعا على ضرورة “الإصلاح” في المغرب… خاصة أن أغلب القادة السياسيين جربوا في زمن مضى وصفة “الثورة” وصعوبة تحقيقها مما أدى بهم إلى مراجعات جعلتهم يختارون طريق المشاركة والإصلاح من داخل المؤسسات… على سبيل المثال، نجد ضمن أحزاب الأغلبية الحكومية زعماء: أحدهم كان قائدا إسلاميا آمن بالخلافة والحاكمية، والثاني طالبا تقدميا آمن بالتغيير الجدري والثالث شيوعيا مرتبطا بالمعسكر الشرقي… أما في صف المعارضة فأحدهم كان ماركسيا ينهم ليل نهار من تراث عبدالكريم الخطابي والآخر نقابيا شارك بقوة في انتفاضة فاس 1990، والأخير اشتراكيا كان شعاره “اتحادي، اتحادي، اتحادي، حزب ثورة على الأعادي”…
الإصلاح ضرورة حتمية وتاريخية تفرضها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومطلب ملح للشباب والشعب… لكن يبدو أننا لم نتمكن بعد من أن نجعل من “الإصلاح” هما وطنيا ومجتمعيا، وحديث العام والخاص من خلال برامج وشعارات واضحة تعطي مدلولا ومعنى للإصلاح المأمول… أتمنى أن تكون الانتخابات المقبلة فرصة للصراع حول برامج حزبية تحدد بوضوح مضامين الإصلاح المراد على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي… لأنه من الواضح، إذا ما فشل “الإصلاح” فسيتقوى آنذاك طموح الشباب إلى الثورة والرجوع إلى نقطة الصفر….
عبدالحق الريكي
الرباط، فاتح فبراير 2016